من العجيب عملية استيراد ما لا يلزم, فكيف بنا ونحن نستورد مشكلة! أو ببساطة قد أعجب بعضنا بنتائج هذه المشكلة وما آلت إليه الأمور بعدها فقرر استيراد هذه النتائج ولكننا لسنا بحاجة إليها فاستورد المشكلة المرتبطة بها ليبرر استخدامه لهذه النتائج.
هذا حال من تبنى العلمانية, ظانا منه بأنها حل لمشكلاتنا وهو قد تجاهل أسباب ظهورها في منبتها وتغافل عن مقارنة حال تلك الأماكن بمناطقنا فلا تشابه بين مشكلاتنا ومشكلات تلك البقاع، فقد ظهرت العلمانية بعد أن استبدت الكنيسة وتعدت حدودها المقررة فيها و خرجت من مملكة الروح وخلاصها إلى مملكة الدنيا وحكمها فحولت متغيرات الحياة والمجتمع وما ينتج عنهما إلى ثوابت تشبه ثوابت الدين والإيمان, فحاربت العلم واقتصت من الإبداع وكبتت أي فكرة جديدة وقاتلت أي محاولة لتطوير المجتمع ورفاه أفراده, فنتج عن ذلك العصور المظلمة فذلك الظلام قد غشيَّ أوروبا واشتد فانتشرت الأمراض والخرافات فلا طرح علمي ولا أساس منطقي مجرد تحكم مطلق وكلمة لا رجعة فيها.
وهذا ما ولّد تلك النقمة على الكنيسة فقد تجاوزت ما كانت تختص به وما هو لله وتعدت على ما هو لقيصر فعاثت فسادا وجهلا وتحكما عبر رجالاتها أفسد البلاد والعباد. ولهم الحق في كره هذه الحال والمحاولة الجادة لكسر تلك السيطرة وإعادة الكنيسة إلى مساحتها ومن هنا بدأت تظهر الدعوات لفصل الدين عن الدولة والحكم فلخلاص البلاد حكم ولخلاص النفوس حكم أخر, وهذا يتناسب مع مكونات المسيحية تلك ومع ما ذكر من أيات في أناجيلها المعتمدة, ومن أرض هذا الكره نبتت بذرة الفصل وإطلاق عنان الأفراد لما يرونه من مصلحة لحياتهم ورفاههم بعيدا عن جمود الكنيسة ورجالها, حبسا لهم في جدران كنائسهم وقد كان في ذلك منفعة مادية كبيرة لهم فمن تلك البذرة إخضرت حدائق دنياهم وأثمرت إرضاء لذواتهم دون حد أو قيد.
ولفهم الصورة لا بد من نظرة على حالنا وواقعنا لنقارن ما بيننا وبينهم ومدى جدوى حلّهم لمشكلاتنا, وأما نحن ففي تلك الفترة عندما حكم الإسلام وانتشر وقوي عوده فشهدت كل ميادين العلم قفزات معرفية, والمقصود بالعلم هنا الشرعي وغير الشرعي من طب وفلك ورياضيات فظهرت الاسطرلابات بل حتى فرشاة الأسنان وأول جامعة، المستشفيات، اساسيات المكيانيك وعلم الجبر، علوم البصيريات والجراحة, فلك أن تتخيل حال هذه البلاد في تلك الفترة والإزدهار والعمران الذين كانا يملأنها، ولعل كتاب ألف اختراع واختراع خير مرجع لما شهدت تلك الفترة من إضافات في كل مكان واتجاه وصنف أو ضرب من ضروب العلم والمعرفة.

فهذه المشاهد الموثقة تظهر بشكل جلي إختلاف الأرضية والمقدمات لما نتج لاحقا من حال فنحن لم نكن نعيش في الظلام ولم تكن مناطقنا تغرق بالأمراض ومياه الصرف بل كانت على طرف النقيد من ذلك.

فلم يكن ديننا دين تخلف أو تقيد وجمود بل كان دينا حركيا عمليا شكل دافعا داخلي للنهضة والعمران لمَّ الشمل وجمع الفكر ووجه الإنسان إلى السعي في الأرض وطرق أبوابها المختلفة.
وبالتالي هل لنا أن نستورد حل نجح مع تلك المقدمات لنستخدمه عندنا وقد اختلفت البدايات بيننا وبينهم؟
وكيف لنا أن نتوقع الوصول إلى نفس الهدف وكل منا قد إنطلاق من مكان وبحال مختلفة عن الأخر؟
وأما لإكمال الصورة فما علينا إلا أن نجري نفس تلك المقارنة لكن مع اختلاف الزمان إلى الحاضر فبعد أن وضع الدين على مقاعد الاحتياط متفرجا على مناطقنا ظهر الفساد والحال الاجتماعي المتردي وكثرت المصائب حتى سبقت قدرتنا على العد والإحصاء، وأما حالهم فقد ازدهر وأصبحت الاختراعات والإنجازات الجديدة تتوالى بكثرة.
فبعد أن أخذنا نظرة سريعة على تلكم الحالين فهل نحن بحاجة ذلك الحل أو أن نستورد تلك المشكلة أم أننا بحاجة لمراجعة كيف ازدهرنا في ذلك العصر وكيف أثر الإسلام على مناطقنا علنا نجد الحل المناسب والمنطلقَ من حالنا واحتياجنا بما يتناسب مع طبائعنا وتركيبتنا.